فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومما يقضي منه العجب زعم أن الاستثناء من فاعل: {لا أَمْلِكُ} وجعل المعنى لا أملك أنا ولكن الله سبحانه هو المالك لكل ما يشاء يفعله بمشيئته: {لِكُلّ أُمَّةٍ} من الأمم الذين أصروا على تكذيب رسلهم: {أَجَلٌ} لعذابهم يحل بهم عند حلوله لا يتعدى إلى أمة أخرى: {إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ} أي أجل كل أمة على ما هو الظاهر، ووضع الظاهر موضع الضمير لزيادة التقرير، والإضافة لإفادة كمال التعين، وجوز أن يكون الضمير للأمم المدلول عليه بكل أمة، ووجه إظهار الأجل مضافًا لذلك بأنه لإفادة المعنى المقصود الذي هو بلوغ كل أمة أجلها الخاص بها ومجيئه إياها بعينها من بين الأمم بواسطة اكتساب الأجل بإضافته عمومًا يفيده معنى الجمعية كأنه قيل: إذا جاءتهم آجالهم بالجمع كما قرأ به ابن سيرين بأن يجئ كل واحد من تلك الأمم أجلها الخاص بها، ويفسر الأجل بحد معين من الزمان والمجئ عليه ظاهر وبما امتد إليه من ذلك فمجيئه حينئذٍ عبارة عن انقضائه إذ هناك يتحقق مجيئه بتمامه أي إذا تم وانقضى أجلهم الخاص بهم: {فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ} عنه: {سَاعَةِ} أي شيئًا قليلًا من الزمان: {وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} عليه، والاستفعال عند جمع على أصله، ونفى طلب التأخر والتقدم أبلغ، وقال آخرون: إنه بمعنى التفعل أي لا يتأخرون ولا يتقدمون، والجملة الثانية إما مستأنفة أو معطوفة على القيد والمقيد ومنعوا عطفها على: {لاَ يَسْتَأْخِرُونَ} لئلا يرد أنه لا يتصور التقدم بعد مجئ الأجل فلا فائدة في نفيه، وأجازه غير واحد والفائدة عنده في ذلك المبالغة في انتفاء التأخر لأنه لما نظم في سلكه أشعر بأنه بلغ في الاستحالة إلى مرتبته فهو مستحيل مثله للتقدير الإلهي وإن أمكن في نفسه، قيل: وهذا هو السر في إيراد صيغة الاستفعال أي أنه بلغ في الاستحالة إلى أنه لا يطلب إذ المحال لا يطلب.
ودفع بعضهم ذلك بأن: {جَاء} بمعنى قارب المجئ نحو قولك: إذا جاء الشتاء فتأهب له.
وتعقب بأنه ليس في تقييد عدم الاستئخار بالقرب والدنو مزيد فائدة، وأشار الزمخشري إلى جواب آخر وهو أن لا يتأخر ولا يتقدم كناية عن كونه له حد معين وأجل مضروب لا يتعداه بقطع النظر عن التقدم والتأخر كقول الحماسي:
وقف الهوى بى حيث أنت فليس لي

متقدم عنه ولا متأخر فإنه أراد كما قال المرزوقي حبسني الهوى في موضع تستقرين فيه فألزمه ولا أفارقه وأنا معك مقيمة وظاعنة لا أعدل عنك ولا أميل إلى سواك، ووجه تقديم بيان انتفاء الاستئخار على بيان انتفاء الاستقدام قد تقدم في آية الأعراف مع بسط كلام فيها؛ ثم لا يخفى أن هذه الآية داخلة في حيز الجواب ولم تعطف على ما قبلها إيذانًا باستقلالها فيه.
قال العلامة الطيبي طيب الله تعالى ثراه: إن الجواب بقوله سبحانه: {قُل لاَّ أَمْلِكُ} الخوارد على الأسلوب الحكيم لأنهم ما أرادوا بالسؤال إلا استبعاد أن الموعود من الله تعالى وأنه صلوات الله تعالى وسلامه عليه هو الذي يدعي أن ذلك منه فطلبوا منه تعيين الوقت تهكمًا وسخرية فقيل في الجواب هذا التهكم إنما يتم إذا ادعيت بأني أنا الجالب لذلك الموعود: وإذا كنت مقرًا بأني مثلكم في أني لا أملك لنفسي ضرًا ولا نفعًا كيف أدعي ما ليس لي بحق؟ ثم شرع في الجواب الصحيح ولم يلتفت صلى الله عليه وسلم إلى تهكمهم واستبعادهم فقال: {لِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} إلخ، وحاصله على ما في الكشاف إن عذابكم له أجل مضروب عند الله تعالى وحد محدود من الزمان إذا جاء ذلك الوقت أنجز وعدكم لا محالة فلا تستعجلوا، ومن هنا يعلم سر إسقاط الفاء من: {إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ} وزيادتها في: {فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ} على عكس آية الأعراف حيث أتى بها أولًا ولم يؤت بها ثانيًا، وذلك أنه لما سيقت الآية جوابًا عن استعجالهم العذاب الموعود حسبما علمت آنفًا اعتنى بأمر الشرطية ولزومها كمال الاعتناء فأتى بها غير متفرعة على شيء كأنها من الأمور الثابتة في نفسها الغير المتفرعة على غيرها وقوي لزوم التالي فيها للمقدم بزيادة الفاء التي بها يؤتى للربط في أمثال ذلك ولا كذلك آية الأعراف كما لا يخفى إلا على الأنعام فاحفظه فإنه من الأنفال، ولا يأباه ما مر في تقرير الاستفهام في صدر الكلام كما هو ظاهر لدى ذوي الأفهام، وكذا لا يأباه ما قيل في ربط هذه الآية بما قبلها من أنها بيان لما أبهم في الاستثناء وتقييد لما في القضاء السابق من الإطلاق المشعر بكون المقضي به أمرًا منجزًا غير متوقف على شيء غير مجئ الرسول وتكذيب الأمة لأنه على ما فيه ما فيه إنكار المدخلية في الجواب، ولعل الغرض يتم بمجرد ذلك لحصول التغاير بين مساقي الآيتين به أيضًا، وقد يقال: إن إسقاط الفاء أولًا لتكون الجملة في موضع الصفة لأجل تهويلًا لأمره وتنويهًا بشأنه حسبما يقتضيه المقام، أي لكل أمة أجل موصوف بأنه إذا جاء لا يستأخرون عنه ولا يستقدمون عليه البتة، والإظهار في موضع ازضمار لزيادة التقرير مثل ما مر آنفًا وليس بذاك، ومما تضحك منه الموتى ما قاله بعض العظاميين بعد أن كاد يقضي عليه فكرًا من أن السر في اختلاف الآيتين الإشارة منه تعالى إلى جواز الأمرين عربية ولم يعلم عافاه الله تعالى أن القرآن الكريم لم ينزل معلمًا للعربية مبينًا لقواعدها وشارحًا لما يجوز فيها وما لا يجوز، بل نزل معجزًا بفصاحته وبلاغته وما تضمنه من الأسرار أقوامًا كل منهم في ذلك الشأن الجذيل المحكك والعذيب المرجب.
وذكر بعض من أحيا ميت الفضل علمه وصفًا عن تخليط أبناء العصر فهمه صفاء الدين عيسى البندنيجي أن مساق هذه الآية لتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وشرح صدره عليه الصلاة والسلام عما عسى يضيق به بحسب البشرية من قولهم: {متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين} [يونس: 48] ولتلقينه صلى الله عليه وسلم رد قولهم ذلك كما يشعر به السباق فناسب قطع كل من الجملتين عن الأخرى ليستقل كل منهما في إفادة التثبيت والرد للتأكيد والمبالغة فيها ولذا لم يؤت بالفاء في صدر الشرطية وجئ بها في الجواب زيادة في ذلك لإفادتها تحقق ما بعدها عقيب ما يقتضيه بلا مهلة، وآية الأعراف سيقت وعيدًا لأهل مكة، ومن البين أن محط الفائدة في إشعار أنه وعيد وأن ما هو أدخل في التخويف الجملة الشرطية، لأنها النص في نزول العذاب عند حلول الأجل وأنه لا محيص لهم عن ذلك عنده دون: {لِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} فقط فكان المقام مقام ربط ووصل فجئ بالفاء لتدل على ذلك وتؤذن باتحاد الجملتين في كونهما وعيدًا ولمسامحته سبحانه في الوعيد لم يؤت بالفاء في الجواب انتهى.
ولعل ما قدمناه ليس بالبعيد عنه من وجه وإن خالفه من وجه آخر ولكل وجهة والله تعالى أعلم بأسرار كتابه. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} استبعادًا له، واستهزاءً به: {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي: في أنه يأتينا، ولما فيه من الإشعار بكون إتيانه بواسطة النبي صلوات الله عليه، قيل: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا} أي: مع ذلك أقرب حصولًا، فكيف أملك لكم حتى أستعجل في جلب العذاب لكم وتقديم الضر، لما أن مساق النظم لإظهار العجز عنه، وأما ذكر النفع فلتوسيع الدائرة تعميمًا. والمعنى لا أملك شيئًا ما.
{إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ} أي: أن أملكه، أو لكن ما شاء الله كائن، فالاستثناء متصل أو منقطع. وصوب أبو السعود الثاني، بأن الأول يأباه مقام التبرؤ من أن يكون، عليه الصلاة والسلام، له دخل في إتيان الوعد. وبسط تقريره.
وأفاد بعض المحققين أن الاستثناء بالمشيئة قد استعمل في أسلوب القرآن الكريم للدلالة على الثبوت والاستمرار، كما في هذه الآية، وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107]، قال: والنكتة في الاستثناء؛ بيان أن هذه الأمور الثابتة الدائمة إنما كانت كذلك بمشيئة الله تعالى، لا بطبيعتها في نفسها، ولو شاء تعالى أن يغيرها لفعل. وهو نفيس جدًا فليحرص على حفظه.
وقوله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} أي: لكل واحد من آحاد كل أمة أجل معين: {إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} قال القاشاني: درَّجهم إلى شهود الأفعال بسلب الملك والتأثير عن نفسه، ووجوب وقوع ذلك بمشيئة الله، ليعرفوا آثار القيامة. ثم لوح إلى أن القيامة الصغرى هي بانقضاء آجالهم المقدرة عند الله بقوله: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} الآية. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} عطف على جملة: {وإما نرينك بعض الذي نعدهم} [يونس: 46]، والمناسبة أنه لما بيَّنت الآية السالفة أن تعجيل الوعيد في الدنيا لهم وتأخيره سواء عند الله تعالى، إذ الوعيد الأتم هو وعيد الآخرة، أتبعت بهذه الآية حكاية لتهكمهم على تأخير الوعيد.
وحُكي قولهم بصيغة المضارع لقصد استحضار الحالة، كقوله تعالى: {ويصنع الفلك} [هود: 38] للدلالة على تكرر صدوره منهم، وأطلق الوعد على الموعود به، فالسؤال عنه باسم الزمان مُؤول بتقدير يدل عليه المقام، أي متى ظهوره.
والسؤال مستعمل في الاستبطاء، وهو كناية عن عدم اكتراثهم به وأنهم لا يأبهون به لينتقل من ذلك إلى أنهم مكذبون بحصوله بطريق الإيماء بقرينة قولهم: {إن كنتم صادقين} أي إن كنتم صادقين في أنه واقع فعينوا لنا وقته، وهم يريدون أننا لا نصدقك حتى نرى ما وعدتنا كناية عن اعتقادهم عدم حلوله وأنهم لا يصدقون به.
والوعد المذكور هنا ما هددوا به من عذاب الدنيا.
والخطاب بقولهم: {إن كنتم} للرسول، فضمير التعظيم للتهكم كما في قوله: {وقالوا يا أيها الذي نُزّل عليه الذكر إنَّك لمجنون} [الحجر: 6] وقولِه: {وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام} [الفرقان: 7] وقوللِ أبي بكر بن الأسود الكناني: يخَبّرنا الرسولُ بأنْ سنحْيَا وكيفَ حياة أصداء وهامِ وهذا المحمل هو المناسب لجوابهم بقوله: {قل لا أملك}.
ويجوز أن يكون الخطاب للنبيء وللمسلمين، جمعوهم في الخطاب لأن النبي أخبر به والمسلمين آمنوا به فخاطبوهم بذلك جميعًا لتكذيب النبي وإدخال الشك في نفوس المؤمنين به.
وإنما خص الرسول عليه الصلاة والسلام بالأمر بجوابهم لأنه الذي أخبرهم بالوعيد وأما المؤمنون فتابعون له في ذلك.
ومعنى: {لا أملك لنفسي ضَرًا ولا نفعًا}: لا أستطيع، كما تقدم في قوله تعالى: {قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضَرًا ولا نفعًا} في سورة [العقود: 76].
وقدم الضر على النفع لأنه أنسب بالغرض لأنهم أظهروا استبطاء ما فيه مضرتهم وهو الوعيد ولأن استطاعة الضر أهون من استطاعة النفع فيكون ذكر النفع بعده ارتقاء.
والمقصود من جمع الأمرين الإحاطةُ بجنسي الأحوال.
وتقدم في سورة الأعراف وجه تقديم النفع على الضر في نظير هذه الآية.
وقوله: {إلا ما شاء الله} استثناء منقطع بمعنى لكن، أي لكن نفعي وضري هو ما يشاءه الله لي.
وهذا الجواب يقتضي إبطال كلامهم بالأسلوب المصطلح على تلقيبه في فن البديع بالمذهب الكلامي، أي بطريق برهاني، لأنه إذا كان لا يستطيع لنفسه ضرًا ولا نفعًا فعدم استطاعته ما فيه ضَر غيره بهذا الوعد أولى من حيث إن أقرب الأشياء إلى مقدرة المرء هو ما له اختصاص بذاته، لأن الله أودع في الإنسان قدرة استعمال قواه وأعضائه، فلو كان الله مقدرًا إياه على إيجاد شيء من المنافع والمضار في أحوال الكون لكان أقرب الأشياء إلى إقداره ما له تعلق بأحوال ذاته، لأن بعض أسبابها في مقدرته، فلا جرم كان الإنسان مسيّرًا في شؤونه بقدرة الله لأن معظم أسباب المنافع والمضار من الحوادث منوط بعضه ببعض، فموافقاته ومخالفاته خارجة عن مقدور الإنسان، فلذلك قد يقع ما يضره وهو عاجز عن دفعه.
فكان معنى الجواب: أن الوعد من الله لا مِني وأنا لا أقدر على إنزاله بكم لأن له أجلًا عند الله.
وجملة: {لكل أمة أجل} من المقول المأمور به، وموقعها من جملة: {لا أملك لنفسي ضرًا ولا نفعًا} موقع العلة لأن جملة: {لا أملك لنفسي} اقتضت انتفاء القدرة على حلول الوعد.
وجملة: {لكل أمة أجل} تتضمن أن سبب عدم المقدرة على ذلك هو أن الله قدر آجال أحوال الأمم.
ومن ذلك أجل حلول العقاب بهم بحكمة اقتضت تلك الآجال فلا يحل العقاب بهم إلا عند مجيء في ذلك الأجل، فلا يقدر أحد على تغيير ما حدده الله.
وصورة الاستدلال بالطريق البرهاني أن قضية: {لكل أمة أجل} قضية كلية تشمل كل أمة.
ولما كان المخاطبون من جملة الأمم كانوا مشمولين لحكم هذه القضية فكأنه قيل لهم: أنتم أمة من الأمم ولكل أمة أجل فأنتم لكم أجل فترقبوا حلوله.
وجملة: {إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} صفة لـ (أجل)، أي أجل محدود لا يقبل التغير.
وقد تقدم الكلام على نظيرها في سورة الأعراف. و{إذا} في هذه الآية مشربة معنى الشرط، فلذلك اقترنت جُملة عاملها بالفاء الرابطة للجواب معاملة للفعل العامل في (إذا) معاملة جواب الشرط. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} هذا الإنكار والتكذيب والاستهزاء هو منطق المشركين والملحدين في كل زمان ومكان، وفي العصر القريب قاله الشيوعيون عندما قاموا بثورتهم الكاذبة، وذبحوا الطبقة العليا في المجتمع بدعوى رفع الظلم عن الفقراء.
وإذا ما كانوا قد آمنوا بضرورة الثواب والعقاب، فمن الذي يحكم ذلك؟ هل الظالم يحكم على ظالم، فتكون النتيجة أن الظالم سيهلك بالظالم، وقد حدث، فأين الشيوعيون الآن؟
لماذا لم يلتفتوا إلى أن لهذا الكون خالقًا يعاقب من ظلموا من قبل، أو من يظلمون من بعد؟